في نفس الوقت – على بُعد عشرات آلاف الكيلومترات
*قعقعة قعقعة*
“الجناح الأيسر يحتاج لتعزيز!”
“أرغغااااا!!”
“لِمَ لا ينسحب أولئك الملاعين فحسب؟ أيعتقدون أنّه يمكنهم هزيمتنا بجيشهم هذا مثلاً؟!”
“مُت فحسب، أيها النبتة!!”
وقف فوغون فوق رأس أحد وحوش وحيد القرن التابعة لجيشه مكتفاً يداه و أخذ يتابع الوضع أمامه بصمت.
وضع لم يتغيّر كثيراً في آخر أربع سنوات، شيء يراه كلّ يوم و هو صاحٍ، و حتى يحلم به إن نام… إنّها الحرب.
قبل أن يعرف هذا العالم روبين، فالمعارك كانت شحيحة جداً لدرجة أنّها تقع كل بضع مئات من السنين.
و عندما تقع، كل واحدة منها إما اقتطاع قطعة أرض صغيرة من آب شجرة، أو يتم إبادة قبيلة بشرية…
لكن ليس بعد الآن.
“أليس، قودي فيلق الوحوش و اخترقي الجناح الأيمن.” تكلّم العجوز الأسمر بصوت منخفض.
“ليس الجناح الأيسر؟” أشارت الفتاة نحو يسارها و كأنّها تحاول تنبيهه للبَين.
هزّ فوغون رأسه، لكنه ردّ بصبر، “الجناح الأيسر يمكنه التحمل لساعة أخرى قبل أن ينهار كلياً، بينما لدينا اليد العليا على الجناح الأيمن، إن قمتِ باختراقه بشكل نظيف و عدتِ للالتفاف لضرب الجناح الأيسر من الخلف، فالنصر سيكون حليفنا.”
“أوه، حسناً إذاً.” قفزت الفتاة من فوق رأس وحيد القرن الضخم، ثم بسرعة جمعت الآلاف من متطفّلي السنوريات و الزواحف الضخمة و هجمت على الجناح الأيمن مباشرةً.
ظلّ فوغون صامتاً عند رؤية المجزرة بدأت في الجانب الأيمن، لقد انتهت المعركة في نظره.
خلال الأربع سنوات الماضية، جرت المعارك ضد البراعم أكثر من عدد المرات التي حظي فيها ببعض النوم. خبرته التي جمعها في قتال تلك الكائنات يمكنها أن توازي كلّ خبرات أسلافه مجتمعة!
“موهيمبي، كيف هي خسائرنا اليوم؟” بعد بضع ثوانٍ سأل أحد الحكماء بجانبه.
شخص يحمل كتاباً سميكاً تقدّم خطوة، “16 ألف جندي مشاة و 400 مستخدم قوانين، سيّد القبيلة.”
قبض فوغون يده اليمنى بقوة حتى كاد يحطّم عضده، “… إذاً خسائرنا الكلية تخطّت حاجز الـ 400 ألف جندي حتى اليوم، صحيح؟”
لم يعرف ذلك الحكيم ماذا يقول، فسكت…
400 ألف جندي مشاة و الآلاف من مستخدمي القوانين؟ لو وقعت هذه الحسبة في حرب سابقة، كانت لتجبرهم على التراجع و تقسّم ظهورهم لبعض مئات من السنين، لكنّهم مجبرون على التقدّم مجدداً بعد انتهاء معركة اليوم.
“… هووه~ و كم أصبحت المسافة بيننا و بين أقرب فيلق؟”
“1560 كيلومتر، سيّد القبيلة.” ردّ الحكيم بصوت منخفض.
“ألف و..؟!” أخيراً انتفض فوغون فزعاً، “الفيلق السابع قطع مئة كيلومتر أخرى داخل العمق اليوم فقط؟ سحقاً، علينا التقدّم 300 كيلومتر اليوم على الأقل!!”
“أليس هذا جيداً يا عمي فوغون؟” سأل حكيم آخر. “لقد تم توزيع الفيالق العشرة على شكل دائرة، يكون مركزها هو موقع الآب الشجرة هوفنهايم، و بعدما أصبح كل فيلق في موقعه بدأنا نتقدّم نحو المركز. صحيح أنّ بقية الفيالق يعتبرون الأمر كنوع ما من السباقات و يحاولون التقدّم بشكل يومي، إلا أنّ هذا ليس من شأننا، لماذا علينا التشبّه بهم؟
ثم أكمل. “ثانياً، كل تلك الخسائر حصلت و نحن تقنياً نحتمي بالفيلقين على يميننا و يسارنا بما أنّهم يتسابقون لقتل الأعداء، فماذا سيحدث لو تقدّمنا أكثر لنكون قريبين منهم؟ أنا أقول دعهم. وعندما يتقدّم الفيلق السابع عن يميننا والفيلق الثامن عن يسارنا لمسافة معيّنة، فسيقطعون الطريق أمامنا بالكامل، بل وسيدافعون عنّا بدون قصد. أقترح أن نبطئ سرعتنا أكثر و نبقى في الخلفية، لقد خسرنا الكثير من إخواننا بالفعل.”
“أحمق! لماذا انضممنا لهذه المعركة في بادئ الأمر؟” انفعل فوغون و التفت خلفه بالكامل.
“.. لأننا.. مُرغمين؟!” ردّ الحكيم الشاب متردداً.
“كلا! رئيس القبيلة روبين لم يُرغمنا، لقد أخبرنا أن نبقى داخل حدودنا إن لم نرد المشاركة و قال إنّه لن يمسّنا بسوء، ألا تذكر؟ نحن هنا من أجل المساهمة و أخذ حصة من الأراضي!” صاح فوغون، “إن تقدّم الفيلقان السابع و الثامن بفارق كبير و قضوا على كل النقاط أمامنا، فأي مساهمة سنجمع؟ هل تريد الاكتفاء بما جمعناه و الاحتماء خلف بقية الفيالق؟ من يضمن أنّ رئيس القبيلة روبين لن يقوم بإلغاء كل مساهماتنا لأننا انسحبنا بشكل واضح، أو حتى ينقلب علينا كمجرمي حرب فارّين؟”
“هذا…” أخذ الحكيم الشاب خطوة للخلف و نظر إلى الأرض، لم يعرف ماذا يقول.
“سيّد القبيلة، خسائرنا ستزداد في المعركة التالية لأن عدد جنودنا يصبح أقل، ثم التالية فالتالية، لو استمررنا على هذا المنحنى فسنفقد جيشنا كله قريباً و سنكون لقمة سائغة لأي أحد، حتى لو جمعنا أراضي كثيرة بمساهماتنا. إن لم ترد التوقّف و الاتّكال على الفيلقين السابع و الثامن، فأرجوك اطلب الدعم من المقر! إن لم يُرسلوا دعماً بالجنود، فعلى الأقل دعماً بالسلاح الإلهي و تلك الأشياء المسماة بالطلاسم، هذا كفيل بتقليل خسائرنا بشكل كبير، ألسنا نُشارك مثلنا مثلهم في تلك الحرب؟ بل و إنّنا نزفنا دماء أكثر منهم، فكيف يعاملوننا بهذا الشكل؟”
أعطى فوغون تنهيدة كبيرة، “… ألم تسمع رئيس القبيلة روبين ذلك اليوم؟ يقول إنّ علينا إثبات أنفسنا أولاً إن أردنا التحدّث عن أي شيء يخصّ إمبراطورية البداية الحقيقية تلك. لا يمكننا حتى التكلم عن الموضوع، فكيف نستفيد ممّا يملكونه؟ .. في الحقيقة أنا حاولت التواصل مع تلك المرأة المدعوة إليزابيث لعلّها تفيدنا بأي شيء، لكنها رفضت بشكل قاطع، قالت إنّ علينا الانضمام للإمبراطورية أولاً إن أردنا أي نوع من الدعم.”
ثم تابع، “ببساطة شديدة، علينا الانضمام للإمبراطورية طواعيةً ما إن أردنا النجاة من الحرب، لكن لننضم علينا إثبات أنفسنا، و لإثبات أنفسنا علينا مجاراة بقية الفيالق، و هذا يعني فقدان معظم الجيش… إنّه يريد منّا إثبات ولائنا بدمائنا.”
“لكننا لا نريد الانضمام لأي شيء أساساً!”
“إن لم ننضم لهم، سنموت!”
“لكن معظمنا سيموت على أي حال قبل أن يوافقوا على انضمامنا!”
“أرغغغ!!”
حفنة الحكماء الواقفين فوق رأس وحيد القرن أصيبوا جميعاً بالهلع، هذه أول مرّة يفكّرون في الموضوع ككل بدون القلق بشأن كل معركة على حدة.
لم يكن يعلم فوغون ما إن كان هذا الهلع سينتج عنه ثبات و حكمة أو سيدمّر روابط الجيش أكثر، لكنه لم يهتم… كان عليه إيقاظهم من أحلامهم بحلول الآن.
فالتفّ مجدداً و عاد ليتابع المعركة ليرى لحظاتها الأخيرة. حسب توقّعه، ستكون إليس قد اخترقت الجناح الأيمن و بدأت بنخر الجناح الأيسر من الخلف، النصر و تفرّق جيش البراعم سيحدث في أي لحظة الآن.
لكنه شاهد شيئاً غريباً غير ذلك…
كلّ فارغي الأعين الطائرين فوق جيش البراعم توقّفوا عن الهجوم و أخذوا ينظرون حولهم نحو المذبحة الحاصلة بملامح باردة بلا مشاعر، ثم أومؤوا جميعاً في نفس الوقت و أطلقوا تنهيدة طويلة، و كأنّهم قرّروا شيئاً، ثم طاروا بعيداً متخلّين عن المعركة.
لم يعلم لماذا… لكن بدلاً من أن يفرح من الانسحاب، دماء فوغون بردت في عروقه عندما رأى هذا المشهد.
الموضوع التاليالموضوع السابق