“لـ لحظة!!” قيصر أشار بيده فجأة أمام روبين، ” ألن تقول شيئاً للجنود؟ أنت الإمبراطور! إنهم على وشك بدء حرب قد تطول لسنوات، كيف تتركهم هكذا؟”
“أمم…” ثبتت قدما روبين في مكانهما و أخذ نظرة سريعة على بحر الرجال من حوله، ثم عاد للنظر نحو جنرالاته، ” أعليّ ذلك حقاً؟ افعلها أنت أو دع أليكساندر يفعلها.”
الوقوف أمام الملايين لإلقاء خطبة… قلب روبين بدأ يدق بسرعة!
منذ كان عمر روبين ثلاث سنوات و هو يُجر للتدريبات و الانعزال، ثم انعزل في الكهف لأكثر من مئة عام، ثم حصلت كل تلك المشاكل و الحروب التي جعلته ينكب على الانعزال أكثر لتطوير نفسه، كل تلك الأشياء جعلته تلقائياً شخص انطوائي.
مع أن عودته لمكانته كقائد عسكري و باحث فذ جعلته غصباً عنه يكون محط انتباه العوالم، إلا أنه قطعاً ما يزال لا يحب أن يُوضع في مواقف كهذه حيث يقف ليخطب وسط ملايين الناس!
حتى عندما خاطب أهل قارة السلف جميعاً ذلك اليوم و أعلن عن الحقبة الجديدة، لم يكن يرَ أحداً أمامه، هو فقط كلّم نفسه و هو يمسك بطلسم صوت.
” ما دخل أليكساندر في الموضوع؟ معاليك، هو الإمبراطور، الجميع هنا من أجلك أنت، سأحرّك جيشك من أجلك، لكنهم في النهاية ما يزالون جيشك أنت.” هز أليكساندر رأسه و تكلّم بسرعة ليبعد نفسه عن هذا الموقف المحرج.
“هذا… حسناً.” فرك روبين رأسه قليلاً ثم أخذ بضع خطوات نحو حافة الخيمة، و بدأ يجرّب نبرة صوته العالية التي لم يستعملها منذ زمن بعيد، ” إحم.. إحم إحم..”
مع أن فوغون لم يفهم كلمة مما دار للتو، إلا أن تحرك روبين و حركاته البسيطة أعلمته هو و بقية حاشيته أنه على وشك إلقاء خطاب في جنوده الآن، فضيّقوا أعينهم قليلاً و ركّزوا تركيزاً شديداً على كل تفصيلة..
قد لا يفهمون شيئاً مما سيقوله روبين، لكن لا يهم… ردّات فعل الجنود و نظراتهم له ستخبرهم الكثير عن ذلك الشخص الذي ظهر من العدم و قرّر توظيفهم عنده كمرتزقة.
كلهم انتظروا صياحاً حماسياً من الجنود كاستقبال لكلمة زعيمهم، لكن ما قابلهم كان صمتاً… صمتاً مريباً.
تلة ضيقة نسبياً يقف عليها أكثر من أربعة ملايين جندي يرتدون دروعاً جسدية كاملة، ما مدى صخب مكان كهذا؟ بغض النظر عن الصرير الذي ستصدره أسلحتهم و دروعهم من الاحتكاك، حتى أنفاسهم و ضربات قلوبهم تُحدث ضوضاء عالية!
لكن من بعد تقدّم روبين شعر فوغون و البقية أن حتى صوت أنفاس الجنود قد هدأ و قلوبهم قد توقفت، بالتركيز قليلاً يمكن سماع صوت بعض الحشرات! لكن حتى تلك كان يجدها الجنود و يدعسونها بحركة خفيفة.
استغرب فوغون مما يحصل، أين كل الضوضاء التي كانت تملأ التل قبل قليل؟ ماذا عن أولئك السكارى الذين… أيه؟
عندما نظر فوغون نحو مكان احتفال أسياد النقوش و الحدادين الإلهيين، لم يجد شخصاً واحداً يشرب أو يتكلم، بل لم يجدهم كلهم من الأساس! بعد البحث قليلاً وجد كل السكارى يرتدون ملابس رسمية و يقفون في صفوف كبقية الجنود.
ثم نظر نحو المطبخ الهائل و نحو جنود الكتيبة الذهبية الذين كانوا يلعبون الشطرنج قبل قليل بدون اكتراث للعالم كله، فوجد مكانهم ما يقارب الـ 50 ألف جندي حقيقي كلهم يرتدون دروعهم الذهبية بفخر و صمت و كأن شيئاً لم يحدث.
هذا… فوغون يمكنه بسهولة عدّ حوالي 15 ألف مستخدم للدرجة الثالثة من القوانين في الجيش أمامه، مع ذلك كلهم مصطفّين بين الجنود لا يمكنك التفريق بينهم.
هو نفسه لديه ألف حكيم تقريباً في جيشه، لكن كل واحد فيهم يرتدي الملابس التي يريدها و يذهب للجهة التي يريدها أثناء القتال، هو لا يملك أي سلطة حقيقية عليهم! لكن هذا المنظر.. أيُتَعامل مع مستخدمي المستوى الثالث هؤلاء على أنهم جنود مثل البقية؟
و أعينهم! أعينهم تلك… كل واحد من الأربعة ملايين جندي أمامه الآن لا ينظرون لروبين بحماس أو باحترام أو خوف، بل بابتسامات خفيفة و أعين لامعة.
عندما دقّق فوغون في هذه الأعين للحظة عرف معنى هذه النظرات، إنه شيء غاب عنهم لمئات آلاف السنين… إنها نظرة الأمل.
إنهم الآن لا ينظرون لقائد عسكري يخافونه، و لا لحاكم عادل يحترمونه.. إنهم ينظرون لمستقبلهم المشرق.
حرّك فوغون عينه نحو الغراب و الهدهد، فوجدهم ينظرون نحوه بنظرات غريبة أيضاً، واضح أنهم يرون ما يرى… روبين لم يقل سوى إحم حتى الآن، لكنه أثر على طريقة تفكيرهم بالفعل.
كل هذا لم يأخذ من فوغون أكثر من ثانيتين، قبل أن يسمع أخيراً صوت روبين يتكلم بلغة أجنبية، “… أنا، الإمبراطور روبين بورتون، موحد كوكب يورا!”
“يعيش معاليه الإمبراطور!”
“يعيش يعيش!!”
رفع روبين يديه مبتسماً ليسكت الحشد أمامه، “لقب قوي، هاه؟ لكن أتعلمون.. لا أعتقد أني أستحقه. أول حرب لي كانت لأني أردت الانتقام لابني قيصر، الثانية كانت لأني أريد حماية عائلتي، و حتى حربي على الإمبراطوريات الأربعة كان بدافع الانتقام و الاتقاء. أنا لم أكن أبداً الإمبراطور الفاتح الذي تصوّروني إياه، لقد قادتني الظروف طول حياتي. حُكمي لكوكب يورا لم يكن لأني أريد حكم العالم، بل لأني كنت خائفاً من أن يحكمه غيري…”
ظل الجميع في صمت شديد منتظرين روبين أن يُكمل، و بالفعل: ” يا أبناء يورا، لقد كنت أنانيّاً و أردت أن يمشي العالم برؤيتي أنا، أنا لست إمبراطوراً بل مجرد رجل يفعل ما يراه صائباً من وجهة نظره، هل تسامحوني على أنانيتي؟”
دااام
زلزلة
لم ينطق أحد الجنود بكلمة، لكنهم رفعوا أقدامهم اليمنى و طرقوها في الأرض بقوة لدرجة أن التلة كلها اهتزّت و جيش قبيلة غضب الشمال الجالس أمام الجدار وجدوا أنفسهم يرتفعون للسماء حوالي قدمين قبل أن ينزلوا مجدداً على مؤخراتهم!
فوغون ارتعب للحظة مما يحدث و ظن أنه قام بتفعيل هجوم الزلزلة بدون علم، لكن سرعان ما ضبط أعصابه و لاحظ ملامح الجنود التي تبدو عليها الغضب قليلاً و حتى أن بعضهم كان يدمع، واضح أن هذه الركلة كانت نوعاً ما من الاعتراض.
إليزابيث و بقية الجنرالات بدأوا ينظرون لبعضهم بتخوف، ربما الضغط على روبين لإلقاء خطاب اليوم لم تكن فكرة جيدة…
الموضوع التاليالموضوع السابق