“أبي…” تمتمت زارا بصوت منخفض، و هى تعض على شفتاها.

فقط بعدما إبتعد روبين بضع مئات من الخطوات عن ذلك الحشد الكبير، و بعدما أمرتهم إليزابيث بالرجوع لمهامهم و عدم إزعاج معاليه، تحولت ملامح روبين من الإبتسام و الراحة إلى ملامح شخص مصاب بالصداع الشديد مجدداً، ثم رفع يده اليسرى و بدأ بتدليك جبهته…

التمثيل أمام كل هؤلاء أنه بخير تماماً لم يكن سهلاً، طوال تلك المدة القصيرة التي وقفها أمام أليكساندر قام بتفعيل العديد من القوانين الثانوية بجانب قانون الحياة حتى يتمكن من وضع ذلك القناع… مع أن هذا زاد عليه الضغط أكثر و زاد صداعه أكثر فأكثر، إلا أنه قطعأً لا يمكن السماح بسقوط معنويات الجيش بسببه!

“هوووه~ أنا بخير…” هز روبين رأسه ببطئ و بدأ يتقدم مجدداً في إتجاه معين، ثم سأل فجأة. “… كيف حال جابا، و البقية؟ لماذا غادروا و ماذا يحدث هناك بالضبط؟”

أخذت إليزابيث خطوتين أخريين للأمام حتى تكون على مقربة أكثر من روبين، ثم بدأت ترد. ” القائد الثاني جابا قرر أخذ الجيش، و التوجه نحو إتجاه شمال غرب لأن أيقن أن قوات الأعداء ينسحبون إلى تلك الجهة في الخفاء، ثم—” اكملت إليزابيث بلا توقف حتى وصلت للجزئية التي قرر فيها جابا دخول المعركة بين البشر المحليين، و الكائنات البشرية البيضاء.

“يوجد هنا بشر مطابقين لبشر عالم يورا، هذا فعلاً يشرح الكثير و يسد الكثير من الفراغات..” أومئ روبين بإبتسامة خفيفة، “قرار جابا كان ممتاز، لو كان لنا حليف محلي في هذا الكوكب فكل شيئ سيكون أسهل.. ماذا بعد؟”

“حسب التقارير فالمعركة بين البشر، و الكائنات البشرية البيضاء كانت في حالة إتزان بالفعل وقتها بلا دلائل أنها ستميل لكفة أحدهم في أي وقت قريب، لكن بعد تدخل قواتنا لصالح جيش البشر كل شيئ إنهار… مع أنه كان هنالك 20 الف قديس و حكيم يطاردون رجالنا، و هم أيضاً انضموا للمعركة، إلا انهم لم يتمكنوا من معادلة الخطر العظيم الذي أبداه رجال الكتيبة الذهبية، و في خلال ثلاث ساعات فقط كانت قد حُسمت تلك المعركة لصالح البشر..”

ثم تابعت ببعض القلق ظاهر على وجهها، ” المشكلة هى أنه بعد إنسحاب قوات الكائنات البشرية البيضاء المنهزمة، جاء جينرالات جيش البشر لتحية جابا، و البقية فرحين مُهللين، لكن المشكلة الكبيرة التي ظهرت كانت حاجز اللغة… ظن جابا و البقية في البداية أنها ستكون مشكلة عادية بحيث أنه عليهم فقط إظهار انهم لا يعرفون لغة أولائك البشر بعدها يمكنهم التواصل عبر الإشارة، او طلب من أحدهم أن يعلمهم اللغة، لكن المشكلة كانت أكبر مما ظنوا… أولائك البشر بدوا متخوفين جداً عندما علموا أن رجالنا لا يمكنهم التكلم بلغتهم، و تركوا مسافة بينهم، و في غمضة عين كل محاولات التواصل قُطعت.”

خطوات روبين توقفت، و عقد حاجبيه قليلاً. “…تصرفهم هذا له تفسير واحد، و هو أنه يفترض أن هنالك لغة موحدة للكوكب و أنه من غير الطبيعي أن يجدوا من لا يعرفها، لابد أنهم بدأوا يشكوا في أصل افراد الكتيبة الذهبية عند تلك النقطة و لهذا وضعوا مسافة بينهم… أخشى أن خطة جابا لمحاولة الإندماج وسط المحليين لاقَت عقبة كبيرة قبل ان تبدأ حتى.”

” صحيح، جابا أيضاً وصل لهذه النتيجة في تقريره، الوضع فعلاً لم يسر كما يُرد، لكنه ليس سيئ جداً أيضاً..” اومئت إليزابيث ثم اكملت. ” بعد تلك المعركة تفكك جيش البشر ذاك إلى عدة جيوش صغيرة و بدأوا بالتوغل في كل الإتجاهات، جابا قال في تقريره أنهم يحاولون قتل كل الكائنات البشرية البيضاء في تلك المنطقة، و السيطرة على أكبر قطع أراضي ممكنة، كما أنهم بدأوا ببناء بعض التحصينات الدفاعية البسيطة.”

نظر روبين نحو إليزابيث بإستغراب. ” و ما الجيد في هذا؟ لو كان أولائك البشر حلفائنا فيمكننا أن نبارك لهم، لكن طالما بدأوا يشكون بنا، و قاموا بعزل جيشنا، فهم أعداء محتملين، و قد يكونوا أعداء أسوأ من تلك الكائنات البشرية البيضاء ايضاً..”
هزت إليزابيث رأسها بخفة. ” الأمر ليس كذلك، حتى مع توجسهم منا فهم يبدون إحترام واضح لنا، و يعتبروننا بمنزلة *عدو العدو صديق* على الاقل.. فمثلاً خلال الأيام الثلاثة التي تلت تلك المعركة قامت الكائنات البشرية البيضاء بتنظيم 5 جيوش أخرى لمهاجمة جيش البشر، لكن كانوا يطلبون المساعدة كل مرة من جابا، و قاتلوا جنباً إلى جنب أكثر من مرة، الدليل الثاني على احترامهم هو أنهم ارسلوا أجزاء من جيوشهم للسيطرة على الأراضي على يمينهم، و يسارهم، و خلفهم، لكنهم لم يتقدموا بإتجاهنا حتى هذه اللحظة، لقد توقفوا بالكامل عن النقطة التي قابلوا فيها جابا!”

روبين نظر أمامه مجدداً لبعض ثوانٍ، قبل أن يتحرك مجدداً نحو خيمة الأسرى التي باتت قريبة، و سأل. “ما هى المسافة بيننا و بين جابا و الرجال الآن؟”

“حوالي الف كيلومتر.” ردت إليزابيث بسرعة.

أومئ روبين. “جيد، عندما يرسل جابا التقرير التالي أخبريه أن ينسحب خمس مئة كيلومتر بالضبط، و يبدأ بعمل بعض التحصينات عند تلك النقطة.”

“..أهذا ضروري حقاً؟ ألن يظهر هذا ضعف من ناحيتنا؟” لم تفهم إليزابيث.

“تصرفاتهم تقول أنهم تحركوا للإستفادة من الفوضى التي خلقناها، و السيطرة على المزيد من الأراضي، لكن وقوفنا في طريقهم حالياً يمنعهم من ذلك، قد يحترموا حقيقة أننا ساعدناهم في تحقيق تلك النتائج حالياً، لكن لو ظللنا واقفين في طريقهم فهنالك مشدة ستحصل عاجلاً أم اجلاً، أنا لم أتي لهذا الكوكب من أجل قطعة ارض، لدي ما يكفي من هذا في يورا، كسب عداء جنس كامل من اجل قطعة أرض هو شيئ غير منطقي أبداً… لذا من الأفضل لو إنسحبنا 500 كيلومتر من تلقاء أنفسنا، وأظهرنا حسن نية، و في نفس الوقت نبدأ بعمل تحصينات عند تلك النقطة لإخبارهم أن هذا هو آخرهم.” حلل روبين، ثم قام بإزالة الستار من خيمة الأسرى، و دخل الخيمة، ثم قام بالتلويح للحراس في الداخل أن ينسحبوا جميعاً.

فقط بعدما خرجوا أكمل روبين كلامه. “اخبري جابا أنه، و حتى أذهب إليه بنفسي، علاقتنا مع أولائك البشر يجب ان تظل في حالة حياد حتى إن لم يستطع كسب ثقتهم.”

“ستذهب بنفسك إلى الجبهة يا أبي؟ متى؟” سألت زارا بحماسة، و قلق في نفس الوقت.

أخذ روبين بضع خطوات أخرى، و جلس أمام أحد المخلوقات البشرية البيضاء المأسورة… مثل المرة السابقة كان ذلك المخلوق مُكبل اليد، و القدم من الخلف، لكن هذه المرة يحاول المخلوق أن يعض روبين، بل كان ينظر نحوه بعيناه الخضراوان بخوف شديد.
مد روبين كلتا يديه ببطئ، و وضعها على جانبا رأس ذلك المخلوق البشري، و بدأ بعملية بحث الروح مجدداً. “… نحن نعاني من نقص حاد في المعلومات، كضرير يتحسس الطريق، كل ما نعرفه حالياً هو نتيجة وقوعنا في حفرة بعد حفرة.. لا يمكنني الاستمرار على هذا الحال. أخبروا جابا إني سأذهب حالما أنتهي من معرفة ما أريد معرفته!”

“ما الذي..؟ أهذا.. بحث الروح؟! أبي، ما الذي تفعله؟ انت بالكاد يمكنك التكلم، لكن تريد تنفيذ تقنية روحية بهذا المستوى؟ أرجوك توقف!!” زارا تقدمت بعض خطوات، و تكلمت بقلق شديد.

“لا بأس.. هذه المرة سأخذ وقتي…” إبتسم روبين إبتسامة قاسية، و باشر عمله..

“أاااااااااااه!!!!”

بدأً من ذلك اليوم و على إمتداد أسابيع، الصرخات المأساوية لم تنقطع للحظة من تلك الخيمة..

 

 

 

 

444 – 3 أشهر.

 

من Zeus

Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Most Voted
Newest Oldest
Inline Feedbacks
View all comments
-+=
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x