“عاصمة دوقية آيفرين… هيه~.” أومئ روبين عندما سمع هذه الكلمة، و أطلق تنهيدة طويلة، ثم بدأ ينظر حوله مجدداً، و بتفحص أكثر، -إذاً هذا ما كان يقصده بيلي-
اختفاء الطبقة الحاكمة مهما كانت مستبدة لا ينتج عنها سوى فوضى مدمرة..
كل القرارات، و الاتفاقيات التي كانت بين تلك الطبقة الحاكمة، و بين حكومات أخرى أو كبار التجار تختفي، و كأنها لم تكن، الجيش، و الشرطة، و كل المؤسسات الحكومية تتفكك، و تفقد كل معانيها، و بإختفاء السُلطة التنفيذية يخرج قطاع الطرق، و المجرمين لمهاجمة التجار، و المزارعين للسيطرة على أكبر كم من الموارد ليحتكروها، و نشر القتل، و الاغتصاب، و الرعب بين الأهالي.
إنها سلسلة حتمية لا مفر منها إلا بإقامة حكومة جديدة في أسرع وقت ممكن، لكن.. حتى إن كان هنالك شخص شجاع يمكنه أن يعلن إقامة حكومة لمساعدة الناس، من يجرؤ على الخروج عن أوامر عائلة بورتون؟
فضلاً عن الخروج عن أوامر عدم إقامة اي مؤسسات جماعية، بل هنالك أوامر أن ممنوع على الجميع دخول نطاق الفروسية!
الفاجعة التي حلت بقارة السلف، و جعلت النبلاء، و الحثالة متساويين تسببت في انتشار تقنيات التدريب بين الجميع بعد ان كانت حكراً على النبلاء، الان لم يعد هنالك اي فارق بين الناس، هنالك فقط عصابات، و ناس عاديين..
الان أعداد مهولة من الناس الذين انضموا للعصابات لديهم طرق التدريب حتى الوصول لمستوى قديس، لكنهم يصلوا للمستوى العاشر و يتوقفوا، خوفاً من لقاء أحد العفاريت الحمراء!
و فضلاً عن كل هذا، فلآيفرين مكانة خاصة لا تشبه اي مكان آخر في قارة السلف
فهنا روبين لم يأمر بالقضاء على الطبقة الحاكمة، و من هم بنطاق الفروسية فحسب، بل أمر بإبادة نسل دم آيفرين كله..
يورا مثلاً كانت تحتوي على العديد من العائلات، و السكان غير عائلة بورتون، مئات الآلاف منهم!
لكن كل المتاجر، و المطاعم، و المزارع، و اكاديميات التدريب كانت ملك لأفراد من عائلة بورتون، كانوا يملكون كل مفاصل المدينة بحيث أنه يمكنهم إدارة المدينة بسهولة حتى لو طردوا كل السكان الاخرين منها.. و هذه الاستراتيجية كانت تعتمدها كل العائلات الكبرى في عاصمة أراضيهم.
حوالي مئتا الف من عائلة آيفرين تمت إبادتهم في ليلة واحدة في فاجعة لم يسبق لها مثيل، مُسحوا من على وجه القارة و مُسحت معهم الحياة من هذه المدينة.
لم يبق أساساً تجار، و مزارعين كبار ليهاجمهم العصابات، و يحتكرون سلعهم!
حالة من الهلع ضربت العاصمة بعد الحادثة بيوم عندما شعر الناس بالخطر القادم، بدأت قتالات في الشوارع، و حالات تخريب عشوائية، كل رجل كان يحاول جمع أي كسرات خبر لتكفي عائلته أثناء رحلة الذهاب لمكان اخر.
مذبحة أخرى ليست أقل بشاعة من سابقتها ضربت المدينة..
عند نهاية ذلك الاسبوع كان قد قُتل أكثر من مليون شخص، و البقية بدأوا بالسقوط واحداً وراء الاخر من الجوع حتى وصلت المدينة لما هى عليه اليوم.. مدينة تملأها أشباح الأحياء، و الاموات.
بعد حوالي دقيقة من النظر في الارجاء، عاد روبين، و ركز نظره على المرأة، و إبنها.
“إيييييـ–” شعرت المرأة بالخوف عندما عاد روبين للنظر نحوها، و ألصقت ظهرها مجدداً بالحائط، بدى و كأنها تتمنى أن تعبر من خلاله.
تجاهل روبين ردة فعل المرأة، و ابقى نظره عليها هى و إبنها، أبقى نظره على شيئ بسيط من نتائج أفعاله..
تنهد روبين مجدداً، و وضع يده اليمنى وراء ظهره، ثم أدخل حسه الروحي لخاتم الفضاء خاصته، و من العدم ظهرت قطعة خبز طويلة بحجم ذراعه.
ثم تصنع إبتسامة، و أخرج يده من وراء ظهره، و ألقاها نحو المرأة بدون أن يقترب اكثر، ثم تكلم، و ما تزال الابتسامة المصطنعة عالقة على وجهه. ” اسف، لم اعمل حسابي، و أجلب المزيد من الطعام، هذا كل ما أملكه حالياً.”
المرأة نظرت لقطعة الخبز الكبيرة التي سقطت على بطن إبنها في ذهول، رفعتها من عليه، و قربتها من أنفها ببطئ، ثم بدأ يعتصر وجهها حتى انزلت قطرة دمع في النهاية..
انها هى.. رائحة الخبر التي كادت تنساه.
“شكراً لك.. شكراً لك…” إحتضنت المرأة قطعة الخبز بيد، و قربت إبنها لها باليد الأخرى للحظة، ثم بدأت تأخذ قطع صغيرة من الخبز، و تطعم صغيرها.
لم تفكر للحظة أن تشك بأن هذا الخبز مسمم، او شئ كهذا، بل ربما هى تأمل أن يكون كذلك، ستكون افضل ميتة ممكنة في وضعهم الحالي..
استمر روبين بالنظر لهذا المنظر بضع ثوانٍ أخرى قبل ان يستدير، و يكمل سيره في منتصف الطريق مجدداً..
روبين كان يعرف أن قطعة الخبز لن تُحدث فارق، على الاغلب المرأة، و إبنها لن يبقوا على قيد الحياة لشهرأخر، و كل هذا بسبب قراراته، بسبب إنتقامه من الدوق دونالد آيفرين..
أتلك المرأة تستحق ما حدث لها، و لعائلتها؟ بالطبع لا.
هل ندم روبين على قراراته التي استخدمها؟ …كلا.
أمثال هذه المرأة يعتبروا أضرار ثانوية تحدث في كل الحروب، و في كل أزمة، لو عاد بالزمن فغالباً كان ليتبع نفس تسلسل الاحداث!
غالباً…
“لا، لا، أرجوك لاااا—-”
حبل أفكار روبين قُطِع فجأة بصوت المرأة، و هى تصرخ بصوتٍ مرعوب.
نظر ورائه مسرعاً ليرى ما يجري، فوجد شخص كثيف الشعر لا يرتدي أي ملابس، يمسك قطعة الخبز بيساره، و قطعة عظام مدببة في يمينه.
و قطعة العظام تخترق رقبة المرأة الهزيلة.. لقد ماتت فوراً.
“انت..!!” من شدة الغضب كاد روبين أن يرسل كرة لهب لتحول ذلك الشخص إلى رماد، لكنه كبح نفسه في اللحظة الاخيرة.
“هيهي.. هيهيهي.. هيهيهيهيهي..” سقط ذلك الرجل على الارض و هو يحتضن قطعة الخبز، و يضحك.
حال ذلك الشخص لم يكن أفضل من المرأة، روبين يمكنه رؤية هيكله العظمي بالكامل بالعين المجرد عظمة عظمة، لقد كانت معركة بقاء ببساطة، و الرجل أختار ان يبق هو..
عينا روبين تحولت نحو الطفل الصغير الذي أصبح موته مؤكداً الان بدون عائل، حتى لو عالجه روبين بالكامل فلن يصمد الطفل في عالم كهذا..
بصعوبة رفع روبين يده، و أخرج منها إبرة من الطاقة، و أرسلها نحو رأس الطفل.
*سووووش*
بنفس النظر المنكسرة نحو السماء، بنفس الملامح الموجعة، و الجسد المحتضر.. لفظ الطفل أنفاسه الاخيرة.
*تاا تاا تاا*
“إبتعد.. انا معي سلاح.. إبتعد..”
في اللحظة الاخيرة قبل أن يلتف روبين للمغادرة سمع صوت ذلك الرجل العاري، و نظر إلى حيث ينظر، فلمح بطرف عينيه ظل يقترب من موقع الحادثة.
بعد صرخات الرجل العاري، تركه الظل في حاله، و بدأ يقترب من جثة الأم و إبنها بلُعابٍ يسيل، لقد كان الكلب الذي تعارك مع المرأة قبل قليل.
*دق دق دق*
وضع روبين يده على قلبه، و قبضها بسرعة، لم يكن بحاجة لتخمين ما سيحدث لهتين الجثتين بعد قليل.
حتى هو لم يكن يعرف أنه ما يزال بإمكانه الشعور بالشفقة على وفاة أحد بعد كل الذين تسبب في مقتلهم، لكنه تأكد من شيئ واحد، أعداد التساؤلات التي تشغل باله قد إزدادت اضعافاً.
الموضوع التاليالموضوع السابق